سورة القصص - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)}
اعلم أن فرعون كانت عادته متى ظهرت حجة موسى أن يتعلق في دفع تلك الحجة بشبهة يروجها على أغمار قومه وذكر هاهنا شبهتين الأولى: قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى} وهذا في الحقيقة يشتمل على كلامين: أحدهما: نفي إله غيره والثاني: إثبات إلهية نفسه، فأما الأول فقد كان اعتماده على أن ما لا دليل عليه لم يجز إثباته، أما أنه لا دليل عليه فلأن هذه الكواكب والأفلاك كافية في اختلاف أحوال هذا العالم السفلي فلا حاجة إلى إثبات صانع، وأما أن ما لا دليل عليه لم يجز إثباته فالأمر فيه ظاهر.
واعلم أن المقدمة الأولى كاذبة فإنا لا نسلم أنه لا دليل على وجود الصانع وذلك لأنا إذا عرفنا بالدليل حدوث الأجسام عرفنا حدوث الأفلاك والكواكب، وعرفنا بالضرورة أن المحدث لابد له من محدث فحينئذ نعرف بالدليل أن هذا العالم له صانع، والعجب أن جماعة اعتمدوا في نفي كثير من الأشياء على أن قالوا لا دليل عليه فوجب نفيه، قالوا وإنما قلنا إنه لا دليل لأنا بحثنا وسبرنا فلم نجد عليه دليلاً، فرجع حاصل كلامهم بعد التحقيق إلى أن كل ما لا يعرف عليه دليل وجب نفيه، وإن فرعون لم يقطع بالنفي بل قال لا دليل عليه فلا أثبته بل أظنه كاذباً في دعواه، ففرعون على نهاية جهله أحسن حالاً من هذا المستدل.
أما الثاني وهو إثباته إلهية نفسه، فاعلم أنه ليس المراد منه أنه كان يدعي كونه خالقاً للسموات والأرض والبحار والجبال وخالقاً لذوات الناس وصفاتهم، فإن العلم بامتناع ذلك من أوائل العقول فالشك فيه يقتضي زوال العقل، بل الإله هو المعبود فالرجل كان ينفي الصانع ويقول لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره، فهذا هو المراد من ادعائه الإلهية لا ما ظنه الجمهور من ادعائه كونه خالقاً للسماء والأرض، لا سيما وقد دللنا في سورة طه (49) في تفسير قوله: {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} على أنه كان عارفاً بالله تعالى وأنه كان يقول ذلك ترويجاً على الأغمار من الناس الشبهة الثانية: قوله: {فَأَوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين فاجعل لّى صَرْحاً لَّعَلّى أَطَّلِعُ إلى إله موسى وَإِنّى لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين} وهاهنا أبحاث:
الأول: تعلقت المشبهة بهذه الآية في أن الله تعالى في السماء قالوا لولا أن موسى عليه السلام دعاه إلى ذلك لما قال فرعون هذا القول والجواب: أن موسى عليه السلام دل فرعون بقوله: {رَبّ السموات والأرض} [الشعراء: 24] ولم يقل هو الذي في السماء دون الأرض، فأوهم فرعون أنه يقول إن إلهه في السماء، وذلك أيضاً من خبث فرعون ومكره ودهائه.
الثاني: اختلفوا في أن فرعون هل بنى هذا الصرح؟ قال قوم إنه بناه قالوا إنه لما أمر ببناء الصرح جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير فشيدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق، فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل وقطعة وقعت في البحر وقطعة في المغرب، ولم يبق أحد من عماله إلا وقد هلك، ويروى في هذه القصة أن فرعون ارتقى فوقه ورمى بنشابة نحو السماء فأراد الله أن يفتنهم فردت إليهم وهي ملطوخة بالدم، فقال قد قتلت إله موسى فعند ذلك بعث الله تعالى جبريل عليه السلام لهدمه. ومن الناس من قال إنه لم يبن ذلك الصرح لأنه يبعد من العقلاء أن يظنوا أنهم بصعود الصرح يقربون من السماء مع علمهم بأن من على أعلى الجبال الشاهقة يرى السماء كما كان يراها حين كان على قرار الأرض، ومن شك في ذلك خرج عن حد العقل، وهكذا القول فيما يقال من رمى السهم إلى السماء ورجوعه متلطخاً بالدم، فإن كل من كان كامل العقل يعلم أنه لا يمكنه إيصال السهم إلى السماء، وأن من حاول ذلك كان من المجانين فلا يليق بالعقل والدين حمل القصة التي حكاها الله تعالى في القرآن على محمل يعرف فساده بضرورة العقل، فيصير ذلك مشرعاً قوياً لمن أحب الطعن في القرآن، فالأقرب أنه كان أوهم البناء ولم يبن أو كان هذا من تتمة قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى} يعني لا سبيل إلى إثباته بالدليل، فإن حركات الكواكب كافية في تغير هذا العالم ولا سبيل إلى إثباته بالحس، فإن الإحساس به لا يمكن إلا بعد صعود السماء وذلك مما لا سبيل إليه، ثم قال عند ذلك لهامان: {ابن لِى صَرْحاً أَبْلُغُ بِهِ أسباب السموات} وإنما قال ذلك على سبيل التهكم فبمجموع هذه الأشياء قرر أنه لا دليل على الصانع، ثم إنه رتب النتيجة عليه فقال: {وَإِنّى لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين} فهذا التأويل أولى مما عداه.
الثالث: إنما قال: {فَأَوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين} ولم يقل اطبخ لي الآجر واتخذه لأنه أول من عمل الآجر فهو يعلمه الصنعة ولأن هذه العبارة أليق بفصاحة القرآن وأشبه بكلام الجبابرة وأمر هامان، وهو وزيره بالإيقاد على الطين فنادى باسمه بيافي وسط الكلام دليل على التعظم والتجبر، والطلوع والاطلاع الصعود يقال طلع الجبل واطلع بمعنى واحد.
أما قوله: {واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} فاعلم أن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى وهو المتكبر في الحقيقة أي المبالغ في كبرياء الشأن، قال عليه السلام فيما حكى عن ربه: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار». وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق.
المسألة الثانية: قال الجبائي الآية تدل على أنه تعالى ما أعطاه الملك وإلا لكان ذلك بحق وهكذا كل متغلب، لا كما ادعى ملوك بني أمية عند تغلبهم أن ملكهم من الله تعالى فإن الله تعالى قد بين في كل غاصب لحكم الله أنه أخذ ذلك بغير حق، واعلم أن هذا ضعيف لأن وصول ذلك الملك إليه، إما أن يكون منه أو من الله تعالى، أو لا منه ولا من الله تعالى، فإن كان منه فلم لم يقدر عليه غيره، فربما كان العاجز أقوى وأعقل بكثير من المتولي للأمر؟ وإن كان من الله تعالى فقد صح الغرض، وإن كان من سائر الناس فلم اجتمعت دواعي الناس على نصرة أحدهما وخذلان الآخر؟ واعلم أن هذا أظهر من أن يرتاب فيه العاقل.
أما قوله: {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} فهذا يدل على أنهم كانوا عارفين بالله تعالى إلا أنهم كانوا ينكرون البعث فلأجل ذلك تمردوا وطغوا.
أما قوله: {فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِي اليم} فهو من الكلام المفحم الذي دل به على عظم شأنه وكبرياء سلطانه، شبههم استحقاراً لهم واستقلالاً لعددهم، وإن كانوا الكبير الكثير والجم الغفير بحصيات أخذهن آخذ في كفه فطرحهن في البحر ونحو ذلك وقوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شامخات} [المرسلات: 27] {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة} [الحاقة: 14] {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] سبحانه وتعالى وليس الغرض منه إلا تصوير أن كل مقدور وإن عظم فهو حقير بالقياس إلى قدرته.
أما قوله: {وجعلناهم أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} فقد تمسك به الأصحاب في كونه تعالى خالقاً للخير والشر، قال الجبائي المراد بقوله: {وجعلناهم} أي بينا ذلك من حالهم وسميناهم به، ومنه قوله: {وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا} [الزخرف: 19] وتقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله جعله فاسقاً وبخيلاً، لا أنه خلقهم أئمة لأنهم حال خلقهم لهم كانوا أطفالاً، وقال الكعبي: إنما قال: {وجعلناهم أَئِمَّةً} من حيث خلى بينهم وبين ما فعلوه ولم يعاجل بالعقوبة، ومن حيث كفروا ولم يمنعهم بالقسر، وذلك كقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا} [التوبة: 125] لما زادوا عندها ونظير ذلك أن الرجل يسأل ما يثقل عليه، وإن أمكنه فإذا بخل به قيل للسائل جعلت فلاناً بخيلاً أي قد بخلته، وقال أبو مسلم معنى الإمامة التقدم فلما عجل الله تعالى لهم العذاب صاروا متقدمين لمن وراءهم من الكافرين.
واعلم أن الكلام فيه قد تقدم في سورة مريم (83) في قوله: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين} ومعنى دعوتهم إلى النار دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي فإن أحداً لا يدعو إلى النار ألبتة، وإنما جعلهم الله تعالى أئمة في هذا الباب لأنهم بلغوا في هذا الباب أقصى النهايات، ومن كان كذلك استحق أن يكون إماماً يقتدى به في ذلك الباب، ثم بين تعالى أن ذلك العقاب سينزل بهم على وجه لا يمكن التخلص منه وهو معنى قوله: {وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ} أو يكون معناه ويوم القيامة لاينصرون كما ينصر الأئمة الدعاة إلى الجنة.
أما قوله: {وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً} معناه لعنة الله والملائكة لهم وأمره تعالى بذلك فيها للمؤمنين، وبين أنهم يوم القيامة من المقبوحين أي المبعدين الملعونين، والقبح هو الإبعاد، قال الليث يقال قبحه الله، أي نحاه عن كل خير.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من المشئومين بسواد الوجه وزرقة العين، وعلى الجملة فالأولون حملوا القبح على القبح الروحاني وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، والباقون حملوه على القبح في الصور. وقيل فيه إنه تعالى يقبح صورهم ويقبح عليهم عملهم ويجمع بين الفضيحتين. ثم بين تعالى أن الذي يجب التمسك به ما جاء به موسى عليه السلام فقال: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الأولى} والكتاب هو التوراة، ووصفه تعالى بأنه بصائر للناس، من حيث يستبصر به في باب الدين، وهدى من حيث يستدل به، ومن حيث إن المتمسك به يفوز بطلبته من الثواب، ووصفه بأنه رحمة لأنه من نعم الله تعالى على من تعبد به.
وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أهلك الله تعالى قرناً من القرون بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة، غير أهل القرية التي مسخها قردة».
أما قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فالمراد لكي يتذكروا، قال القاضي: وذلك يدل على إرادة التذكر من كل مكلف سواء اختار ذلك أو لم يختره، ففيه إبطال مذهب المجبرة الذين يقولون ما أراد التذكر إلا ممن يتذكر، فأما من لا يتذكر فقد كره ذلك منه، ونص القرآن دافع لهذا القول، قلنا أليس أنكم حملتم قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [الأعراف: 179] على العاقبة، فلم لا يجوز حمله هاهنا على العاقبة، فإن عاقبة الكل حصول هذا التذكر له وذلك في الآخرة.


{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)}
اعلم أن في الآية سؤالات:
السؤال الأول: الجانب موصوف، والغربي صفة، فكيف أضاف الموصوف إلى الصفة؟
الجواب: هذه مسألة خلافية بين النحويين، فعند البصريين لا يجوز إضافة الموصوف إلى الصفة إلا بشرط خاص سنذكره، وعند الكوفيين يجوز ذلك مطلقاً حجة البصريين، أن إضافة الموصوف إلى الصفة تقتضي إضافة الشيء إلى نفسه، وهذا غير جائز فذاك أيضاً غير جائز، بيان الملازمة أنك إذا قلت جاءني زيد الظريف، فلفظ الظريف يدل على شيء معين في نفسه مجهول بحسب هذا اللفظ حصلت له الظرافة، فإذا نصصت على زيد عرفنا أن ذلك الشيء الذي حصلت له الظرافة هو زيد، إذا ثبت هذا، فلو أضفت زيداً إلى الظريف، كنت قد أضفت زيداً إلى زيد، وإضافة الشيء إلى نفسه غير جائزة، فإضافة الموصوف إلى صفته وجب أن لا تجوز، إلا أنه جاء على خلاف هذه القاعدة ألفاظ، وهي قوله تعالى في هذه الآية: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى} وقوله: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} [البينة: 5] وقوله: {حَقُّ اليقين} [الواقعة: 95] {وَلَدَارُ الأخرة} [النحل: 30] ويقال صلاة الأولى ومسجد الجامع وبقلة الحمقاء، فقالوا التأويل فيه جانب المكان الغربي ودين الملة القيمة وحق الشيء اليقين ودار الساعة الآخرة وصلاة الساعة الأولى ومسجد المكان الجامع وبقلة الحبة الحمقاء، ثم قالوا في هذه المواضع: المضاف إليه ليس هو النعت، بل المنعوت، إلا أنه حذف المنعوت وأقيم النعت مقامه فهاهنا ينظر إن كان ذلك النعت كالمتعين لذلك المنعوت، حسن ذلك وإلا فلا، ألا ترى أنه ليس لك أن تقول عندي جيد على معنى عندي درهم جيد، ويجوز مررت بالفقيه على معنى مررت بالرجل الفقيه، لأن الفقيه يعلم أنه لا يكون إلا من الناس والجيد قد يكون درهماً وقد يكون غيره، وإذا كان كذلك حسن قوله جانب الغربي، لأن الشيء الموصوف بالغربي الذي يضاف إليه الجانب لا يكون إلا مكاناً أو ما يشبهه، فلا جرم حسنت هذه الإضافة، وكذا القول في البواقي، والله أعلم.
السؤال الثاني: ما معنى قوله: {إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر}؟
الجواب: الجانب الغربي هو المكان الواقع في شق الغرب، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه السلام من الطور، وكتب الله (له) في الألواح والأمر المقضي إلى موسى عليه السلام الوحي الذي أوحى إليه، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم يقول: وما كنت حاضراً المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى عليه السلام، ولا كنت من جملة الشاهدين للوحي إليه أو على (الموحى) إليه، (وهي لأن الشاهد لابد وأن يكون حاضراً)، وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات.
السؤال الثالث: لما قال: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الغربى} ثبت أنه لم يكن شاهداً، لأن الشاهد لابد أن يكون حاضراً، فما الفائدة في إعادة قوله: {وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين}؟
الجواب: قال ابن عباس رضي الله عنهما: التقدير لم تحضر ذلك الموضع، ولو حضرت فما شاهدت تلك الوقائع، فإنه يجوز أن يكون هناك، ولا يشهد ولا يرى.
السؤال الرابع: كيف يتصل قوله: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً} بهذا الكلام ومن أي وجه يكون استدراكاً له؟
الجواب: معنى الآية: ولكنا أنشأنا بعد عهد موسى عليه السلام إلى عهدك قروناً كثيرة فتطاول عليهم العمر وهو القرن الذي أنت فيه، فاندرست العلوم فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك وعرفناك أحوال الأنبياء وأحوال موسى، فالحاصل كأنه قال وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه، ولكنا أوحيناه إليك فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب، فإذن هذا الاستدراك شبيه الاستدراكين بعده.
واعلم أن هذا تنبيه على المعجز كأنه قال إن في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلم من أهله، دلالة ظاهرة على نبوتك كما قال: {أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى} [طه: 133].
أما قوله: {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} فالمعنى ما كنت مقيماً فيه.
وأما قوله: {تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتنا} ففيه وجهان:
الأول: قال مقاتل: يقول لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي أرسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا عليك هذه الأخبار، ولولا ذلك لما علمتها الثاني: قال الضحاك: يقول إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين تتلو عليهم الكتاب وإنما كان غيرك ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولاً، فأرسلنا إلى أهل مدين شعيباً وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء.
أما قوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا} يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه {ولكن رَّحْمَةً مّن رَّبِكَ} أي علمناك رحمة، وقرأ عيسى بن عمر بالرفع أي هي رحمة، وذكر المفسرون في قوله: {إِذْ نَادَيْنَا} وجوهاً أخر أحدها: إذ نادينا أي قلنا لموسى {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَيء} [الأعراف: 156] إلى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} [الأعراف: 157].
وثانيها: قال ابن عباس إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم: يا أمة محمد أجبتكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني قال وإنما قال الله تعالى ذلك حين اختار موسى عليه السلام سبعين رجلاً لميقات ربه.
وثالثها: قال وهب: لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال رب أرنيهم قال إنك لن تدركهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم قال بلى يا رب فقال سبحانه يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم فأسمعه الله تعالى أصواتهم ثم قال: أجبتكم قبل أن تدعوني الحديث كما ذكره ابن عباس.
ورابعها: روى سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا} قال: «كتب الله كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ثم وضعه على العرش ثم نادى يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله أدخلته الجنة».
أما قوله: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ} فالإنذار هو التخويف بالعقاب على المعصية.
واعلم أنه تعالى لما بين قصة موسى عليه السلام قال لرسوله: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى... وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ... وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور} فجمع تعالى بين كل ذلك لأن هذه الأحوال الثلاثة هي الأحوال العظيمة التي اتفقت لموسى عليه السلام إذ المراد بقوله: {إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر} إنزال التوراة حتى تكامل دينه واستقر شرعه والمراد بقوله: {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً} أول أمره والمراد ناديناه وسط أمره وهو ليلة المناجاة، ولما بين تعالى أنه عليه السلام لم يكن في هذه الأحوال حاضراً بين تعالى أنه بعثه وعرفه هذه الأحوال رحمة للعالمين ثم فسر تلك الرحمة بأن قال: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ} واختلفوا فيه فقال بعضهم لم يبعث إليهم نذير منهم: وقال بعضهم: حجة الأنبياء كانت قائمة عليهم ولكنه ما بعث إليهم من يجد تلك الحجة عليهم، وقال بعضهم لا يبعد وقوع الفترة في التكاليف فبعثه الله تعالى تقريراً للتكاليف وإزالة لتلك الفترة.
أما قوله: {وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ} الآية فقال صاحب الكشاف: (لولا) الأولى امتناعية وجوابها محذوف، والثانية تحضيضية، والفاء في قوله: {فَيَقُولُواْ} للعطف، (وفي قوله للعطف). وفي قوله: {فَنَتَّبِعَ} جواب (لولا) لكونها في حكم الأمر من قبل أن الأمر باعث على الفعل، والباعث والمحضض من واد واحد، والمعنى لولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي: هلا أرسلت إلينا رسولاً، محتجين علينا بذلك لما أرسلنا إليهم، يعني إنما أرسلنا الرسول إزالة لهذا العذر وهو كقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] {أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} [المائدة: 19] {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءاياتك} واعلم أنه تعالى لم يقل ولولا أن يقولوا هذا العذر لما أرسلنا، بل قال: {وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ فَيَقُولُواْ} هذا العدو لما أرسلنا وإنما قال ذلك لنكتة وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلاً وقد عرفوا بطلان دينهم لما قالوا ذلك، بل إنما يقولون ذلك إذا نالهم العقاب فيدل ذلك على أنهم لم يذكروا هذا العذر تأسفاً على كفرهم، بل لأنهم ما أطاقوا وفيه تنبيه على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم كقوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28] وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: احتج الجبائي على وجوب فعل اللطف قال لو لم يجب ذلك لم يكن لهم أن يقولوا: هلا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك، إذ من الجائز أن لا يبعث إليهم وإن كانوا لا يختارون الإيمان إلا عنده على قول من خالف في وجوب اللطف كما مر أن الجائز إذا كان في المعلوم لو خلق له لم يمكن إلا أن يفعل ذلك.
المسألة الثانية: احتج الكعبي به على أن الله تعالى يقبل حجة العباد وليس الأمر كما يقوله أهل السنة من أنه تعالى لا يقبل الحجة وظهر بهذا أنه ليس المراد من قوله: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] ما يظنه أهل السنة، وإذا ثبت أنه يقبل الحجة وجب أن لا يكون فعل العبد بخلق الله تعالى وإلا لكان للكافر أعظم حجة على الله تعالى.
المسألة الثالثة: قال القاضي: فيه إبطال القول بالجبر من جهات: إحداها: أن اتباعهم وإيمانهم موقوف على أن يخلق الله ذلك فيهم سواء أرسل الرسول إليهم أم لا وثانيتها: أنه إذا خلق القدرة على ذلك فيهم وجب سواء أرسل الرسول أم لا وثالثتها: إذا أراد ذلك وجب أرسل الرسول إليهم أم لا، فأي فائدة في قولهم هذا لو كانت أفعالهم خلقاً لله تعالى؟ فيقال للقاضي هب أنك نازعت في الخلق والإرادة ولكنك وافقت في العلم فإذا علم الكفر منهم فهل يجب أم لا، فإن لم يجب أمكن أن لا يوجد الكفر مع حصول العلم بالكفر وذلك جمع بين الضدين وإن وجب لزمك ما أوردته علينا، واعلم أن الكلام وإن كان قوياً حسناً إلا أنه إذا توجه عليه النقض الذي لا محيص عنه، فكيف يرضى العاقل بأن يعول عليه؟


{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)}
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم عند الخوف قالوا هلا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك، بين أيضاً أنه بعد الإرسال إلى أهل مكة قالوا: {لَوْلا أُوتِىَ مِثْلَ مَا أُوتِىَ موسى} فهؤلاء قبل البعثة يتعلقون بشبهة وبعد البعثة يتعلقون بأخرى، فظهر أنه لا مقصود لهم سوى الزيغ والعناد.
أما قوله: {فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا} أي جاءهم الرسول المصدق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى من الكتاب المنزل جملة واحدة ومن سائر المعجزات كقلب العصا حية واليد البيضاء وفلق البحر وتظليل الغمام وانفجار الحجر بالماء والمن والسلوى ومن أن الله كلمه وكتب له في الألواح وغيرها من الآيات فجاؤا بالاقتراحات المبنية على التعنت والعناد كما قالوا: {لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12] وما أشبه ذلك.
واعلم أن الذي اقترحوه غير لازم لأنه لا يجب في معجزات الأنبياء عليهم السلام أن تكون واحدة ولا فيما ينزل إليهم من الكتب أن يكون على وجه واحد إذ الصلاح قد يكون في إنزاله مجموعاً كالتوراة ومفرقاً كالقرآن، ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله: {أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِىَ موسى مِن قَبْلُ} واختلفوا في أن الضمير في قوله: {أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ} إلى من يعود، وذكروا وجوهاً: أحدها: أن اليهود أمروا قريشاً أن يسألوا محمداً أن يؤتى مثل ما أوتي موسى عليه السلام فقال تعالى: {أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِىَ موسى} يعني أو لم تكفروا يا هؤلاء اليهود الذين استخرجوا هذا السؤال بموسى عليه السلام مع تلك الآيات الباهرة.
وثانيها: أن الذين أوردوا هذا الاقتراح كفار مكة، والذين كفروا بموسى هم الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام إلا أنه تعالى جعلهم كالشيء الواحد لأنهم في الكفر والتعنت كالشيء الواحد.
وثالثها: قال الكلبي إن مشركي مكة بعثوا رهطاً إلى يهود المدينة ليسألهم عن محمد وشأنه فقالوا إنا نجده في التوراة بنعته وصفته، فلما رجع الرهط إليهم وأخبروهم بقول اليهود قالوا إنه كان ساحراً كما أن محمداً ساحر، فقال تعالى: {أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِىَ موسى}.
ورابعها: قال الحسن قد كان للعرب أصل في أيام موسى عليه السلام فمعناه على هذا أو لم يكفر آباؤهم بأن قالوا في موسى وهرون ساحران.
وخامسها: قال قتادة أو لم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبل من البشارة بعيسى ومحمد عليهما السلام فقالوا ساحران.
وسادسها: وهو الأظهر عندي أن كفار قريش ومكة كانوا منكرين لجميع النبوات ثم إنهم لما طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم معجزات موسى عليه السلام قال الله تعالى: {أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِىَ موسى مِن قَبْلُ} بل بما أوتي جميع الأنبياء من قبل، فعلمنا أنه لا غرض لكم في هذا الاقتراح إلا التعنت، ثم إنه تعالى حكى كيفية كفرهم بما أوتي موسى من وجهين:
الأول: قولهم: {ساحران تَظَاهَرَا} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأهل المدينة (ساحران) بالألف وقرأ أهل الكوفة بغير ألف وذكروا في تفسير الساحرين وجوهاً: أحدها: المراد هرون وموسى عليهما السلام تظاهرا أي تعاونا وقرئ (اظاهرا) على الإدغام وسحران بمعنى ذوي سحر وجعلوهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر وكثير من المفسرين فسروا قوله: {سِحْرَانِ} بأن المراد هو القرآن والتوراة واختار أبو عبيدة القراءة بالألف لأن المظاهرة بالناس وأفعالهم أشبه منها بالكتب وجوابه: إنا بينا أن قوله: {سِحْرَانِ} يمكن حمله على الرجلين وبتقدير أن يكون المراد الكتابين لكن لما كان كل واحد من الكتابين يقوي الآخر لم يبعد أن يقال على سبيل المجاز تعاونا كما تقول تظاهرت الأخبار وهذه التأويلات إنما تصح إذا حملنا قوله: {أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِىَ موسى} إما على كفار مكة أو على الكفار الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام ولا شك أن ذلك أليق بمساق الآية الثاني: قولهم: {إِنَّا بِكُلّ كافرون} أي بما أنزل على محمد وموسى وسائر الأنبياء عليهم السلام ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق إلا بالمشركين لا باليهود وذلك مبالغة في أنهم مع كثرة آيات موسى عليه السلام كذبوه فما الذي يمنع من مثله في محمد صلى الله عليه وسلم وإن ظهرت حجته، ولما أجاب الله تعالى عن شبههم ذكر الحجة الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {قُلْ فَأْتُواْ بكتاب مّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثله، قال الزجاج (أتبعه) بالجزم على الشرط ومن قرأ (أتبعه) بالرفع فالتقدير أنا أتبعه، ثم قال: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ} قال ابن عباس يريد فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج، وقال مقاتل فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما وهذا أشبه بالآية فإن قيل الاستجابة تقتضي دعاء فأين الدعاء ههنا؟ قلنا قوله: {فَأْتُواْ بكتاب} أمر والأمر دعاء إلى الفعل ثم قال: {فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ} يعني قد صاروا ملزمين ولم يبق لهم شيء إلا اتباع الهوى ثم زيف طريقتهم بقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ الله} وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد وأنه لابد من الحجة والاستدلال {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} وهو عام يتناول الكافر لقوله: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] واحتج الأصحاب به في أن هداية الله تعالى خاصة بالمؤمنين.
وقالت المعتزلة: الألطاف منها ما يحسن فعلها مطلقاً ومنها ما لا يحسن إلا بعد الإيمان والدليل عليه قوله: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] فقوله: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} محمول على القسم الثاني ولا يجوز حمله على القسم الأول، لأنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن عدم بعثة الرسول جار مجرى العذر لهم، فبأن يكون عدم الهداية عذراً لهم أولى، ولما بين تعالى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الدلالة قال: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول} وتوصيل القول هو إتيان بيان بعد بيان، وهو من وصل البعض بالبعض، وهذا القول الموصل يحتمل أن يكون المراد منه إنا أنزلنا القرآن منجماً مفرقاً يتصل بعضه ببعض ليكون ذلك أقرب إلى التذكير والتنبيه، فإنهم كل يوم يطلعون على حكمة أخرى وفائدة زائدة فيكونون عند ذلك أقرب إلى التذكر، وعلى هذا التقدير يكون هذا جواباً عن قولهم هلا أوتي محمد كتابه دفعة واحدة كما أوتي موسى كتابه كذلك، ويحتمل أن يكون المراد وصلنا أخبار الأنبياء بعضها ببعض وأخبار الكفار في كيفية هلاكهم تكثيراً لمواضع الاتعاظ والانزجار ويحتمل أن يكون المراد: بينا الدلالة على كون هذا القرآن معجزاً مرة بعد أخرى لعلهم يتذكرون. ثم إنه تعالى لما أقام الدلالة على النبوة أكد ذلك بأن قال: {الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ} أي من قبل القرآن أسلموا بمحمد فمن لا يعرف الكتب أولى بذلك، واختلفوا في المراد بقوله: {الذين ءاتيناهم الكتاب} وذكروا فيه وجوهاً: أحدها: قال قتادة إنها نزلت في أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة حقة يتمسكون بها فلما بعث الله تعالى محمداً آمنوا به من جملتهم سلمان وعبدالله بن سلام.
وثانيها: قال مقاتل نزلت في أربعين رجلاً من أهل الإنجيل وهم أصحاب السفينة جاؤا من الحبشة مع جعفر.
وثالثها: قال رفاعة بن قرظة نزلت في عشرة أنا أحدهم، وقد عرفت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل من حصل في حقه تلك الصفة كان داخلاً في الآية ثم حكى عنهم ما يدل على تأكيد إيمانهم وهو قولهم: {آمنا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} فقوله: {إِنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا} يدل على التعليل يعني أن كونه حقاً من عند الله يوجب الإيمان به وقوله: {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} بيان لقوله: {آمنا به} لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد وبعيده، فأخبروا أن إيمانهم به متقادم وذلك لما وجدوه في كتب الأنبياء عليهم السلام المتقدمين من البشارة بمقدمه، ثم إنه تعالى لما مدحهم بهذا المدح العظيم قال: {أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ} وذكروا فيه وجوهاً: أحدها: أنهم يؤتون أجرهم مرتين بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته وبعد بعثته وهذا هو الأقرب لأنه تعالى لما بين أنهم آمنوا به بعد البعثة وبين أيضاً أنهم كانوا به قبل مؤمنين البعثة ثم أثبت الأجر مرتين وجب أن ينصرف إلى ذلك.
وثانيها: يؤتون الأجر مرتين مرة بإيمانهم بالأنبياء الذي كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم ومرة أخرى بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وثالثها: قال مقاتل هؤلاء لما آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم شتمهم المشركون فصفحوا عنهم فلهم أجران أجر على الصف وأجر على الإيمان، يروى أنهم لما أسلموا لعنهم أبو جهل فسكتوا عنه، قال السدي اليهود عابوا عبد الله بن سلام وشتموه وهو يقول سلام عليكم ثم قال: {وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة} والمعنى (يدفعون) بالطاعة المعصية المتقدمة، ويحتمل أن يكون المراد دفعوا بالعفو والصفح الأذى، ويحتمل أن يكون المراد من الحسنة امتناعهم من المعاصي لأن نفس الامتناع حسنة ويدفع به ما لولاه لكان سيئة، ويحتمل التوبة والإنابة والاستقرار عليها، ثم قال: {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ}.
واعلم أنه تعالى مدحهم أولاً بالإيمان ثم بالطاعات البدنية في قوله: {وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة} ثم بالطاعات المالية في قوله: {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} قال القاضي دل هذا المدح على أن الحرام لا يكون رزقاً جوابه: أن كلمة من للتبعيض فدل على أنهم استحقوا المدح بإنفاق بعض ما كان رزقاً، وعلى هذا التقدير يسقط استدلاله، ثم لما بين كيفية اشتغالهم بالطاعات والأفعال الحسنة بين كيفية إعراضهم عن الجهال فقال: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} واللغو ما حقه أن يلغى ويترك من العبث وغيره وكانوا يسمعون ذلك فلا يخوضون فيه بل يعرضون عنه إعراضاً جميلاً فلذلك قال تعالى: {وَقَالُواْ لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم سلام عَلَيْكُمْ} وما أحسن ما قال الحسن رحمه الله في أن هذه الكلمة تحية بين المؤمنين، وعلامة الاحتمال من الجاهلين، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الارض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] ثم أكد تعالى ذلك بقوله حاكياً عنهم {لاَ نَبْتَغِى الجاهلين} والمراد لا نجازيهم بالباطل على باطلهم، قال قوم نسخ ذلك بالأمر بالقتال وهو بعيد لأن ترك المسافهة مندوب، وإن كان القتال واجباً.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8